عاجل
الأحد 19 مايو 2024

محمود كيشانة يكتب: الفيلسوف رئيسًا لجامعة القاهرة

الميزان

كان الحلم الذي يراود الفلاسفة عامة وزعماء الفلسفة اليونانية والفلسفة الإسلامية خاصة هو أن تحكم الفلسفة وتتسيد، بحيث تنتقل من الإطار النظري إلى الإطار التطبيقي على أرض الواقع ، فوجدنا في الفكر الأفلاطوني أن الفيلسوف هو الذي يجب أن يقود، وتكون له اليد الطولى في كل جوانب الدولة التعليمية والسياسية والأخلاقية وغيرها، الأمر تطور بصورة أكثر جاذبية عند الفارابي الذي جعل الفلسفة هي أساس لكل شيء في مدينته الفاضلة، الفيلسوف يرأس ومساعدوه من الفلاسفة يعينونه في قطاعات الدولة مؤسساتها، ولم يكن يجول بخاطر أفلاطون أو الفارابي أن هذا الأمر سيتحقق على أرض الواقع جزئيًا، وذلك عندما صارت أعلى مؤسسة علمية وتعليمية في العالم العربي وهي جامعة القاهرة يقودها فيلسوف، وهو الفيلسوف المبدع محمد عثمان الخشت.

هذا العلم الشامخالذي تحكي سيرته الفكرية ولا زالت عن مبدع حلقت أفكاره في عنان السماء، حارب الجمود بكافة أشكاله، حارب التعصب بكافة أشكاله، وقف مدافعًا عن مصرنا الحبيبة فكريًا في أشد الأوقات إيلامًا، اقرأوا مؤلفاته التي تربو على الخمسين، لتدركوا ماذا قدم ولا زال للفكر العقلاني المنزه عن الهوى والقائم على الدفاع عن الآخر عقديًا أو فكريًا أو غيرهما، فلنقرأ له فلسفة المواطنة في عصر التنوير، والمجتمع المدني والدولة، ونحو تأسيس عصر ديني جديد، وأخلاقيات التقدم لندرك كيف سبق هذا الفيلسوف أنداده، وكيف علا بفكره بعيدًا عن التعصب والجمود.

لقد قدم الخشت حياته على محرابي : العلم والعمل، فكانت تجول في أمرين لا ثالث لهما: العمل البحثي والعمل الإداري، فهو بحثيًا يمتلك القدرات التي تجعله ينطلق من الفلسفة المحلية والإقليمية إلى مصاف الفلسفة الدولية، وقد كان وسيلته في ذلك فكره ومنهجه، فكره الذي ينطلق إلى آفاق العالمية، ومنهجه الذي يحيل هذا الفكر إلى واقع ملموس. وقد كان الفكر والمنهج اللذان استند إليهما الخشت الأساس الذي ارتكز إليه في ترسيخ أي فكرة أو نقدها أو تصحيحها أو تحليلها وإجراء المقارنات من خلالها, دون أن يكون هدفه من ذلك التعصب البغيض للمذهب أو الملة, أو لمجرد الانتصار الزائف على الخصوم , أو حتى التظاهر بالعبقرية و التنوير. أما إداريًا فقد جمع خبرة كبيرة من خلال توليه رئاسة مركز اللغات والترجمة في جامعة القاهرة ،ومن خلال عمله كمستشار ثقافي لمصر في السعودية، ومن خلال توليه منصب نائب رئيس جامعة القاهرة.

هذا الفيلسوف جاء بمشروع طموح ينطلق من خلاله بجامعة القاهرة إلى مصاف العالمية، إلى جامعات الجيل الثالث، بحيث تكون مخرجات البحث العلمي فيه لها مردود على الدولة والمواطن، جيل تكون المناهج فيه تستند إلى تصدير الأفكار للطلاب، وليس مجرد الحفظ والتلقين، جيل يهتم بالمراكز البحثية ترتبط فيه الجامعة بالمجتمع. وأعظم ما في مشروع الخشت المستقبلي تأسيس كلية للدراسات الدينية بالشراكة مع جامعة أكسفورد، تؤسس لتجديد الخطاب الديني، بحيث ينشأ جيل منفتح على الآخر يظهر سماحة الإسلام ودعوته للحوار مع الآخر، جيل يواجه مظاهر الجمود والتطرف. ومن ثم فإن نجاح هذا المشروع هو نجاح للفلسفة، نجاح للوسطية التي دافع عنها هذا الفيلسوف طوال حياته.

إذن فلنكن مع الخشت في تطبيق مشروعه النهضوي الذي يحمل فيه الخير للعلم والتعليم في مصر، مشروع يحمل فيه آمال الفلسفة والفلاسفة حتى تتجسد على أرض الواقع، خاصة إن مشروعالخشت محاولة جادة وهادفة لإعادة الدور الحقيقي الذي ينبغي للجامعة أن تكون عليه ، حتى تكون عامل بناء في المجتمع الذي يرنو إلى الارتقاء في مدارج التقدم العلمي والأخلاقي.